الصفحة الرئيسية

مقالة "بيت رشدي الشمعة" للكاتبة الدكتورة ناديا خوست
عن صحيفة تشرين السورية - زاوية أوراق ثقافية - بتاريخ 6 حزيران 2001 م .

كنا ما زلنا في شهر أيار، الشهر الغني بالذكريات !.. أعدم فيه شهداء أيار!.. وعلى بعد يوم فقط بعد ثلاثة عقود احتلت إسرائيل بالقوة مدناً وقرى عربية فلسطينية.. لكننا فيه احتفلنا, في نهاية القرن العشرين، بهرب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وكنا، نحن الكتاب أول عرب زاروا المعتقلات المحررة، وأول عرب وقفوا على المطل الذي يجتمع فيه الجولان ولبنان بفلسطين.. وتفرجوا على لقاء بلاد الشام من خيمة عسكرية كان يرصدنا منها في قلعة الشقيف المحتلون الإسرائيليون المهزومون !.

ربما دفعتني روح ذلك الشهر إلى البحث عن بيت رشدي الشمعة، شهيد أيار!.. بيت كان يمتد من حي القنوات إلى حي باب السريجة وباب الجابية، ورثه عن أبيه وأمه. في صورة من تلك الصور القديمة المطبوعة على كرتون، يبدو مقطع صغير من البيت: بحرة واسعة أمامها مجموعة من الرجال الواقفين والنساء الجالسات. خلفهم نوافذ مرتفعة تكتفها عرائش وأزهار وأشجار. رجال ونساء متعلمون، في ذلك الوقت من الثلث الأول من القرن العشرين, منهم ابن رشدي الشمعة، وسط جنة بيئية صاغها المعماريون العرب !.

تبعت مع حفيدة شهيد أيار، خيط الذكريات إلى البيت. فنزلنا من حارة "التعديل" في حي القنوات.. هذه مدرسة حليمة السعدية التي زرناها مرة فوجدنا التلاميذ يجلسون مي قاعة مزخرفة يعلن مثلها متحفاً !.. إلى يميننا حارة تدخل إليها من قنطرة موشاة بعريشة خميسة ! ولكن أين البيت الذي كان يمتد بين القنوات وباب السريجة وباب الجابية ؟.. أين الباب الكبير الذي كان ينفتح على حديقة واسعة كبستان تصل منها إلى أرض الدار؟! مكانه جدار مرتفع خلفه مدرسة ضخمة، من الاسمنت, والى جانبها مقطع آخر من بيت شهيد أيار: مرآب، براميل القمامة ! .. فيا للتكريم الذي قدمته محافظة مدينة لشهيد كبير ؟!.. سألت الرجل المشرف على مرآب القمامة: أين بيت رشدي الشمعة ؟.. فاعتذر وهو يغسل يديه: من هنا يتناول الزبالون البراميل ويطوفون بها ثم يعيدونها إلى مرآب القمامة. أما بيت رشدي الشمعة فلم أسمع به !.
تركنا الطريق لنلتف من باب السريجة حول مقطع تراءى لنا من بقية قصر الأمس: بيت عربي مهمل خلف أشجار كينا باسقة. عبرنا ساحة, ودخلنا إلى حارة من بيوت عربية قديمة اقتحمها بناء حديث. هنا لا تزال الذاكرة حية في العمارة ! أكد لنا رجل من سكان الحي: نعم أعرف بيت رشدي الشمعة ! هذه بقية منه ! وأشار إلى الساحة التي عبرنا منها فقال: اقتطعت هذه الساحة من البيت. واقتطع منه جزء أخر، أستملك لتبنى فيه مدرسة. ومنه اقتطع ما سمي ملجأ وأصبح فيه مجمع براميل قمامة ! ... بقي من بيت رشدي الشمعة هذا المقطع الصغير الذي يرتعش سكانه كلما طرق الباب. فهم بين مجموعة من الورثة قد يكون لهم حق في بقية البيت، وبين محافظة ترفع سيفها البتار على الأحياء القديمة، وقد خصت باهتمامها بيت شهيد أيار!.

عن هذا العمل
تاريخ وأصول العائلة
شخصيات عائلية
الأخبار العائلية
العائلات الدمشقية
الأرشيف العائلي
تواصل معنا
 
 
 
 
 
 
 

بقي بيت شهيد أيار، إذاً, في الذكريات فقط ! فاستعدناه من أفراد أسرة الشمعة الذين عاشوا فيه. كان البيت قصراً عربياً كقصور الأندلس, يمتد بين ثلاثة أحياء. تتقدمه حديقة شاسعة، في وسطها البيت الرئيس, وحوله خمسة بيوت للأسرة. ظن أحد الحجاج العائدين بابه الكبير نُزلا فطلب من البستاني أن يبيت فيه. استضافه صاحب البيت دون أن يعلن له انه أحمد باشا الشمعة/ أبو رشدي الشمعة / صب الماء على يديه, وقدم له الطعام، واحتفى به، حتى خيل للرجل انه في نُزل.. فمد يده إلى عبه ليدفع أجر إقامته ! واكتفى صاحب البيت بالسمعة الحسنة
التي تشترط التواضع والكرم والدماثة والعطف على الغرباء... واستمر البيت في تقاليده: فنزل فيه أهل كفرسوسة الذين قصفت بيوتهم أيام الثورة السورية .

تذكر الكتب أن غليوم إمبراطور ألمانيا نزل في دمشق القديمة يوم دعاه السلطان عبد الحميد. كان بيت رشدي الشمعة أحد البيوت التي زارها. توقع صاحب البيت ذلك فشيد وسط حديقته غرفة طعام واسعة خاصة لاستقبال الإمبراطور ومرافقيه. استقدم لها ثريا من كريستال بوهيميا. ما زال يذكر هؤلاء الأحفاد بريقها, ويتذكرون أنهم كانوا يرمونها لينزلوا قطعة من الكريستال يتأملون الضوء من خلالها!.. فأستمع إلى ذلك دون أن تضع كفك على قلبك متسائلاً كلم من كنوزنا ضاعت دون أن ندرك قيمتها: كانت تلك الأيام لا تزال معبأة بثروات حضارة عظيمة استمرت الأجيال قرونا في الحياة على بقاياها: ألم يتحدث أهلنا عن الخوابي المملوءة بالذهب التي تفاجئ فلاحاً يحرث الأرض أو رجلا يبني بيتاً.؟ .. ألم يفاجأ الذين هدموا بيت رشدي الشمعة بما يسمى " كنزاً " فأحيط المكان بالحراسة ومنع الناس من الاقتراب منه حتى رحلت الآثار!.. وكأن بين الحضارة القديمة وبين عصرنا جسرا من الذهب يذكّر بأن أساطير تلك الحضارة حقيقة حية ! ولكن هل نستطيع أن نستمر في التبذير كمن يغرف من ثروة لا تنفد !!.
بقيت الحديقة، التي شيدت في وسطها قاعة الطعام للإمبراطور غليوم, ملأى بأشجار النارنج حتى اليوم الذي استملك فيه البيت لتشيد مكانه مدرسة كان يمكن أن تشيد في أي مكان آخر!!.. ولاشك في أن قاعة الطعام سحرت الإمبراطور بطرازها العربي, وبغابة من شجر النارنج حولها! كان هرتزل وقتذاك يقتفي
خطوات الإمبراطور غليوم ليلتقيه وليقنعه بأن يسند لدى السلطان عبد الحميد مشروع الوطن الصهيوني في فلسطين. واستطاع الاجتماع به في القدس. واقترح عليه أن يزور مستوطنة صهيونية ليتفرج على " ما يبدعه " المستوطنون اليهود في فلسطين ! ألم تكن حديقة رشدي الشمعة وبيته، إذاً، ذات دور في الإشارة إلى صناع الحضارة الحقيقيين, أهل البلاد, أصحاب الأشجار الوارفة ؟ ألم يبق في ذاكرة الإمبراطور عبق زهرة النارنج أو لون ثماره المحتشدة حول قاعة الطعام والبحرة المرسومة بالرخام ! وهل كان يمكنه أن يتجاهل هوية عريقة بدت له واضحة في كل خطوة من خطواته في بلاد الشام ؟!.
تنسج العمارة بخيوط إنسانية ! فهنا كانت الجدة تطل من نافذة العلوي على الحديقة, مستمتعة بعريشة الليلك. ومن هنا تتراءى لها أشجار الحديقة الرئيسية: أشجار المشمش الهندي, وشجرة برتقال حامضة الثمار، وأشجار جانرك... تعد لنا الشاهدة من أسرة الشمعة أشجار طفولتها وصباها فماذا نحصي معها ؟ وهل تحسب شجيرات الورد ؟ ألم تكن المزهريات تملأ من ورد مقطوف من ارض الدار ؟ ألم تكن قناني الشراب تحضر من ليمون البيت ؟ ألم يكن مربى النارج والكباد من أشجار ارض الدار؟ ألم توزع عناقيد عرائش العنب على الأهل والجيران ؟ وهل خلا بيت من شجرة رمان تبهج بزهرها وعقيقها ؟ أليست حدائق القصور العربية الأندلسية تبهر السياح اليوم بما يسميه الأدلاء " بستان البرتقال " ؟! .
كتب أهل دمشق على شاهدة ضريح رشدي الشمعة: " شهيد الأمة العربية "! متحدين الدونمة الذين أعدموه ونفوا أسرته إلى الأناضول. مع ذلك بدا لي رشدي الشمعة مطارداً بعد شنقه في السادس من أيار! طارده من تبنى ملاحقة أثره وذكراه في بيته, فهدمه ! وقد يكون محا آثار بقية شهداء أيار ورجال الثورة السورية ! .
ألم يكد يهدم البيت الذي خرج منه يوسف العظمة إلى ميسلون ؟! ألم يهدم فندق فيكتوريا وهو سجل تاريخي من سجلات تاريخنا الحديث ؟ا.
كفل مخطط إيكوشار محو الذاكرة الوطنية والهوية الوطنية, واندفع في تعريبه وتنفيذه تجار العقارات والفنيون المدافعون عنهم في محافظة المدينة ! كأن التاريخ الوطني أوراق فقط في كتاب, لا خطوات ومواقف تعيش في بيوت وحارات وأحياء!.

بعد العودة من تلك الجولة المحزنة , تذكرت اللوحات التي تطرز المدن الغربية والشرقية : هنا عاش ... هنا جلس ... هنا كتب ... هنا مر ... مسجّلةً للمدن عمقاً تاريخياً وإنسانياً, بشخصيات وأحداث وطنية وأدبية, برجال عاديين أطلقوا من شارع أو جسر طلقة على المحتل فأضافهم شعبهم إلى ذاكرته الوطنية. تذكرت دفاع سكان ساحة الفوج في باريس عن أشجارهم التي رأت بلدية باريس أن تقطعها فاضطرت إلى عرض الشرائح المريضة عليهم في الساحة نفسها وإلى غرس مكان الأشجار المريضة أخرى باسقة ! ... وتذكرت بيت فيكتور هوغو هناك !.
ترى ألم يكن رشدي الشمعة , شهيد أيار , يستحق لوحة توضع على جدار بيته فتبقيه مُجسداً في الذاكرة, وتُغني به وطناً ومدينة ؟!... ألم يكن قصره يستحق أن يحمى كأثر معماري ثمين وغني بذاكرة تاريخية, يعرض المناخ الذي عاش فيه رجل من طلائع حركة التحرر الوطني العربية ؟!... ألم يكن ليجذب السياح بمرور غليوم فيه ويستبقي لهم وللحي حديقة كالغابة تهبُ الهواء والرطوبة ؟!... ألم يكن يعرض مدينة عظيمة جميلة ويضيف جمالاً إلى المدينة بدلاً من هذا القبح الذي شيد مكانه ؟! بقي البيت سليماً حتى هدم لتشيد مكانه مدرسة ! ... وكان يمكن أن يبقى حتى اليوم, فالعمارة تستبقى مهما تغيرت وظائفها. وما كان أحد ليغضب لو أستملك بيت رشدي الشمعة ليصبح مزاراً أو متحفاً أو نُزلاً للضيوف والوفود الرفيعة, كقصور الأندلس التي ينزل فيها الضيوف المكرمون !.
من نفذ هدم قصر جميل لا يجوز هدمه معمارياً, ولا يجوز هدمه تاريخياً ووطنياً ؟! من رآه مساحة من أرض فقط تناسب بناء مدرسة ومرآب قمامة وساحة عامة ؟! ونحن في زمن يقاتل فيه المحتلون الإسرائيليون على حجر صغير يتمنون أن يسجل لهم عمقاً تاريخياً ! والصراع بيننا وبينهم أيضاً على هوية القرى والمدن التي يحتلونها وعلى هوية القدس !.

يفترض ذلك أن المدينة مسألة وطنية لا مسألة عقارية, لا يسمح ببحثها إلا للمنزهين أخلاقياً وللمؤهلين علمياً وثقافياً ! ويفترض أن يبعد مصيرها عن أيدي العقاريين الأميين والموظفين الصغار ! ... ولذلك نتمنى أن يحاسب كل من يمس ذاكرة الوطن, كيلا نستمر في بعثرتها بحجج متنوعة تستر المصالح الشخصية العقارية ! ... وكيلا يوجد من يجسر على اتهام التراث الوطني المعماري بأنه جاهلية ! وما أعجب أن يجمع العقاريون صور البيوت التي هدموها في حارة العبيد, مثلاً ليؤكدوا ضرورة هدم ما تبقى من الحي, كأنهم يفخرون بما دمروه خلال اجتماع مجلس الشعب ليلة أقر الحماية, ولا يجمعون الدليل على إدانة جريمة !.
فقدنا الكثير من تراثنا الثمين, حضن ذاكرة الأمة ! وكيلا نفقد المزيد منه يجب أن تحمى أحياؤنا العربية كلها في جميع المدن السورية ... لتبقى لنا إمكانية البحث عن الذاكرة المهملة ... ولتبقى لنا هوية !

 

 

 

 

alchamaa.com © All Rights Reserved . 2002-2016